خرجت إيران من سوريا بـ«خفي حنين»؟

في غمرة التطورات المتسارعة في سوريا منذ إسقاط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر الجاري، تبدو طهران الخاسر الأكبر، بعد الدور الذي لعبته في دعم بقاء الأسد طيلة ما يزيد عن عقد، لتخرج في غضون ساعات «بخفي حنين».

والآن هي أمام حقيقة مؤلمة تتمثل في خسارة عشرات المليارات كانت تكلفة هذا التدخل، في وقت تزداد الضغوط الداخلية وينحدر الاقتصاد إلى أوضاع تذكّر الإيرانيين بمرارة حقبة الثمانينيات.

ورغم أن إيران لم تكشف قط عن حجم تلك الفاتورة، إلا أن التقديرات تناهز 50 مليار دولار.

ولأن طهران لم تكن حليفاً عادياً، بل شريكاً في الدمار الهائل الذي حل بسوريا، والذي تقدر المنظمات الدولية تكلفة إزالته وإعادة إعمار البلاد بما يصل إلى 400 مليار دولار، يبدّد هذا الواقع آمالها في استعادة «دَينها» الثقيل الذي خططت له عبر سلسلة متشعبة من الاتفاقيات الاقتصادية مع النظام السابق، أكّد خبير اقتصادي سوري أنه «لاغٍ» لعدة اعتبارات.

جذور التورّط

تعود جذور التورط الإيراني في سوريا إلى عام 2012، عندما التزمت طهران لأول مرة بالحفاظ على حكم الأسد. حينها قام اللواء قاسم سليماني، القائد السابق لفيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني الذي اغتالته الولايات المتحدة في عام 2020، بسلسلة من الزيارات إلى سوريا لـ«تقييم استقرار نظام الأسد».

يقول معهد «كارنيغي» إن هذه الزيارات «جعلته يشعر بالقلق إزاء قدرة النظام على الصمود في وجه الطفرة الثورية»، فقادته إلى لبنان للقاء الأمين العام السابق لحزب الله حسن نصر الله.

أشار المعهد في تحليل له إلى أن الضغوط التي مارسها نصر الله وسليماني نجحت في إخراج المرشد الأعلى علي خامنئي والمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني من ترددهما الأولي، إذ كان خامنئي قد أعرب عن مخاوف كبيرة بشأن الالتزامات المالية والعملياتية المطلوبة لتدخل بري واسع النطاق في سوريا.

لكن نصر الله وسليماني استطاعا تأطير التدخل، «لقد كانت حجتهم تتمحور حول التهديد الوجودي الذي قد يشكله سقوط الأسد المحتمل على مصالحهم الإستراتيجية، وعلى ما يسمى بمحور المقاومة»، بحسب تقرير «كارنيغي».

عشرات المليارات الإيرانية

قبل عام 2011، كانت العلاقات الاقتصادية بين سوريا وإيران محدودة للغاية على الرغم من تحالفهما الذي دام 30 عاماً. لكن مع تحول طهران إلى داعم رئيس لنظام الأسد، شرعت العلاقات الاقتصادية في اتخاذ منحى جديد.

منذ عام 2013، قدمت إيران لسوريا ثلاثة خطوط ائتمان لاستيراد الوقود وسلع أخرى، بقيمة تراكمية عند 5.6 مليار دولار، منحت طهران من خلالها نظام الأسد شريان حياة.

ويضاف إلى خطوط الائتمان تلك، تكاليف المعدات والذخائر العسكرية ورواتب الميليشيات الإيرانية وأموال الطوارئ التي حاولت منع السقوط الحر لليرة السورية.

وقدّر الرئيس السابق للجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني، حشمت الله فلاحت بيشه عام 2020، أن إيران أنفقت ما يصل إلى 30 مليار دولار في سوريا، مشدداً في تصريحات إعلامية على أن طهران تتوقع استعادة هذه الأموال.

وفي أغسطس 2023، جرى تسريب وثيقة حكومية صادرة عن الرئاسة الإيرانية ومصنفة «سرية»، تتعلق بإنفاق طهران 50 مليار دولار على الحرب في سوريا، خلال 10 سنوات، واعتبارها «ديوناً» تسعى لاستعادتها على شكل استثمارات وموارد كالفوسفات والنفط.

حصة من الكعكة

لم توفر طهران جهداً في هذا الصدد، حيث انتزعت حتى عام 2024 ما لا يقل عن 126 اتفاقية موقعة مع النظام السوري في مختلف القطاعات من الطاقة، والتجارة، والزراعة، والصناعة، والاتصالات، والتمويل، إلى الصحة والتعليم، وفقاً لما أحصاه مركز «جسور» للدراسات.

لكن هذه الاتفاقيات لم تنفذ جميعها على غرار اتفاقية التجارة الحرة لعام 2012، وقد ظلت اتفاقية التعاون الإستراتيجي طويل الأمد التي وقعت بالأحرف الأولى عام 2018، حبيسة البرلمان الإيراني.

دفعت إيران نحو تفعيل الاستثمارات الرابحة خلال السنوات الماضية، بينما ماطل نظام الأسد حيال تفعيل اتفاقيات أخرى. وبالنظر إلى البيانات التي أوردها المركز، يتّضح أن توقيع معظم الاتفاقيات بين النظام السوري وإيران تزامن مع هدوء العمليات العسكرية، حيث شهدت أعوام 2017 و2019 و2023 العدد الأكبر من الاتفاقيات مع محدودية واضحة قبل عام 2016، ما يؤشر إلى بداية حقبة جديدة عنوانها «تحصيل الديون».

فيما تراجعت حدة العمليات العسكرية في سوريا، بدءاً من عام 2017، تحول تركيز إيران إلى جانب حليفة الأسد الأخرى روسيا، نحو ضمان حصة من الكعكة السورية أو ما تبقى من موارد في البلاد، خاصة آبار النفط والغاز ومناجم الفوسفات.

وفق ما أوضحه تقرير لمركز «كاندل» للدراسات، أفرز هذا التوجه تنافساً حاداً بين طهران وموسكو على ضمان مصالحهما الإستراتيجية في سوريا، والتحكم بمواردها الطبيعية كجزء من إستراتيجية السيطرة الشاملة على البلاد، وضمان استعادة ما أنفقوه.

8 مشاريع لاسترداد 18 مليار دولار

تشير الوثيقة التي سربتها مجموعة «هاكرز» مرتبطة بمنظمة «مجاهدي خلق» المعارضة للنظام الإيراني، إلى أن الاتفاقيات المُوقّعة في سبتمبر 2022، تنص على إنفاق طهران 947 مليون دولار في 8 مشاريع، لاسترداد نحو 18 مليار دولار من ديونها وفق جدول زمني مدته 50 عاماً.

تظهر الوثيقة أن هذه المشاريع والعقود، تم اختيارها من قائمة تضم 130 مشروعاً قدمها النظام السوري وقتها، ومن بينها استثمارات في قطاعي النفط والفوسفات السوريين.

يتعلق الأمر بحقل حمص رقم 21، وحقل النفط رقم 12 في مدينة البوكمال الحدودية المحاذية للعراق. وتكشف الوثيقة أن تنفيذ عقد حقل حمص، الذي يمتد لـ30 عاماً بدءاً من عام 2020، يتضمن استثماراً بقيمة 300 مليون دولار من جانب إيران لإكمال المشروع خلال خمس سنوات، بهدف استرداد 3.4 مليار دولار من الديون.

وعلى نحو مماثل، ينص عقد البوكمال، الذي تبلغ مدته 30 عاماً أيضاً، على استثمار إيران 300 مليون دولار على مدى خمس سنوات، بهدف استرداد ما مجموعه 3 مليارات دولار من الديون.

ومن ضمن المشاريع أيضاً، إنشاء وتشغيل محطة للهاتف النقال في سوريا من خلال إنفاق 222 مليون دولار خلال 3 سنوات، لتحصل طهران بذلك على دخل متوقع بمبلغ 1.5 مليار دولار.

الصراع على الفوسفات والموانئ

تم توقيع اتفاق بخصوص منجم للفوسفات في البادية السورية تبلغ مقدراته 1.05 مليار طن، وفقاً للوثيقة الإيرانية التي سربت، إذ ينص على أن تحصل إيران على جزء من حصتها في المنجم على مدى 50 عاماً، وذلك من خلال استثمار قيمته 125 مليون دولار يتم تنفيذه على مدى 3 سنوات.

وبحسب الوثيقة، تم بدء تنفيذ هذا العقد منذ عام 2018، حيث تم استخراج 2.05 مليون طن من الفوسفات من المنجم حتى فبراير 2022.

هناك أيضاً اتفاقية تقضي بحصول إيران على جزء من إيرادات ميناء اللاذقية الذي سعت مراراً للسيطرة عليه، وقد حصلت بالفعل على جزء من حصتها من عائداته والبالغة 15% على الأقل من 2019 وحتى أواخر 2021، وكان من المفترض أن تستمر عملية دفع هذه المستحقات لمدة 20 عاماً، وفقاً للبيانات التي جمعها مركز «كاندل» للدراسات.

برزت أهمية الموانئ السورية بالنسبة لإيران كوسيلة لتعزيز التجارة الخارجية وتلك غير الرسمية، في ظل العقوبات المفروضة عليها، لكنها إلى جانب استخراج الفوسفات شهدت أبرز أوجه التنافس مع روسيا.

سعت طهران للسيطرة على الموانئ السورية ضمن المساحة الممنوحة لها نظراً للمصالح الروسية في البحر الأبيض المتوسط، حيث تمكنت موسكو من بسط سيطرتها على ميناء اللاذقية بعد تفاهمات مع النظام على حساب طهران إلى جانب سيطرتها المسبقة على ميناء طرطوس الهام.

في المقابل، استطاعت إيران وقتها ضمان استغلال ميناء الحميدية، الواقع جنوب محافظة طرطوس، لمدة تتراوح بين 30 و40 سنة بدءاً من عام 2019، الذي منحت تشغيله لشركة «خاتم الأنبياء»، الذراع الاقتصادية للحرس الثوري الإيراني.

الطاقة والمطار والتمويل

بينما كانت كفة روسيا أرجح في مجال استخراج الفوسفات، بعدما خسر الإيرانيون طموحاتهم أمام شركة «ستروي ترانس غاز» (Stroytransgaz) الروسية، كان تفوق إيران على روسيا بارزاً في مجال الطاقة، إذ فازت شركة «ماپنا» القابضة ومقرها طهران بثلاثة عقود لبناء محطات طاقة في تشرين وحمص واللاذقية، هذا إلى جانب عقود استكشاف النفط التي حصلت عليها إيران.

علاوة على ذلك، كان من المقرر أن تستحوذ شركة خاصة مرتبطة بالحكومة الإيرانية، وهي Iloma Investment Private JSC، المعروفة أيضاً بـ Eloma، على حصة 49% في مطار دمشق الدول، فيما أعلن أخيراً عن موافقة المصرف المركزي الإيراني على تأسيس بنك إيراني سوري مشترك، لحل مشكلة التحويلات المالية باعتبارها «أكبر عائق في مسار تقدم التجارة الإيرانية السورية».

بالموازاة مع كل ذلك، بدأت التقارير الإعلامية تتحدث عن عمليات شراء مكثفة للعقارات في دمشق وريفها من قبل شركات لها روابط مباشرة مع إيران.

طريق معبّد للسيطرة

باستناء مزاحمة الروس للإيرانيين في بعض مقدرات الاقتصاد السوري، بدت الساحة شبه فارغة أمامهم لتعميق السيطرة الاقتصادية. يقول «معهد دول الخليج العربية في واشنطن» في تقرير له، إن النظام السوري سعى إلى جذب استثمارات من روسيا والصين ودول الخليج، غير أن قدرة روسيا على الاستثمار في سوريا أعاقتها الحرب في أوكرانيا، وعلى الرغم من دمج سوريا في مبادرة الحزام والطريق في عام 2022، فإن الصين لم تمول بعد أي مشاريع في البلاد.

في الوقت نفسه، واجهت الجهات الفاعلة الإقليمية الرئيسة، بما فيها دول خليجية، تحديات في إعادة الانخراط اقتصادياً مع سوريا؛ بسبب العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة.

مصير الأموال الإيرانية

«الإيرانيون لم يستثمروا حقيقة في سوريا، بل عقدوا اتفاقيات إذعان مع حكومة الأسد حتى يسيطروا على مفاصل الاقتصاد السوري، والأموال التي استدانها النظام منهم كانت خطوط ائتمان من أجل النفط، ومن أجل دعم الحرب العسكرية ضد الشعب السوري»، هذا ما يراه د. أسامة القاضي، الخبير والمستشار الاقتصادي.

قال في تصريحات لـ«إرم بزنس»، إن تلك الاتفاقيات «لم يصادق عليها مجلس الشعب، وكانت بمثابة اتفاقيات إذعان من رئيس لا شرعية له؛ لأنه فاقد للشرعية الشعبية التي هي مصدر الدستور والسلطات، إضافة إلى أن الانتخابات المزيفة كان مستثنى منها خمس محافظات في ذلك الحين هي إدلب، وريف حلب، والحسكة، ودير الزور، والرقة، فيما كان قسم كبير من درعا خارج سيطرته».

وتابع: «هي اتفاقيات لا نعترف بها خاصة أننا لا تنطبق علينا اتفاقية فيينا المتعلقة بخلافة الدولة؛ لأنه لم يتم استلام الحكم من رئيس على رأس سلطته ومن حكومة موجودة على الأرض، فالرئيس هرب وحل الجيش، ولولا أن الثوار أمنوا الموظفين لما كانت هناك مؤسسات، وهي أصلاً مؤسسات هالكة وتحتاج إلى الكثير من التجديد والتطوير».

وأكّد القاضي أن هذه العقود هي «عقود لاغية»، وأن «الشعب السوري غير معنيّ بالديون الإيرانية، لا بل سيطالب في المحاكم الدولية بتعويضات لا تقل عن 200 مليار دولار على دعم مجرم حرب». وأضاف: «هناك أكثر من مليوني وثيقة تدين هذا النظام وكل من كان معه، والإيرانيون دعموه منذ اللحظة الأولى».

نقدم لكم من خلال بوابة كاش مصر تغطية ورصدًا مستمرًّا لـ أخبار عالمية على مدار الـ 24 ساعة، كما نقدم للقارئ المصري أخبار مصر.
يقوم فريقنا في بوابة كاش مصر بمتابعة حصرية لما يصدر عن البنوك وأسعار العملات، وأحداث السياسة الهامة، وكل ما يتعلق بــ مال والأعمال. كما تهتم بوابة كاش مصر بالأبواب الثابتة التالية: إستثمار، صحة، رياضة، فنون، تكنولوجيا، والعديد من الأنشطة التي تحدث في مصر والعالم .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى