الغناء العربي.. من أمّهات القصائد إلى “النصوص الركيكة”
سيحصد مطرب عشريني، ملايين المتابعين، بنصّ ركيكٍ وعبارات سخيفة، بينما تبدو قصيدة “أراك عصيّ الدمع” لأبي فراس الحمداني، التي غنتها أم كلثوم عام 1926، “دقّة قديمة”، لا ترضي المنتجين الذين يسوّقون الرداءة بحجة مواكبة العصر!
أين تلاشت أمهات القصائد العربية؟ ولماذا تكتسح النصوصُ السطحية حناجر المطربين؟ هل نحن محكومون بما يفضله جراد السوشيال ميديا؟ أم أنّ هناك ماكينة ضخمة تعمل لتخريب الذائقة عن سبق إصرار وتصميم؟
“سيعزف الجمهور عن سماع فيروز بعد عشر سنوات”، قالها منذ أيام الموسيقار طاهر مامللي، صاحب لحن “التغريبة الفلسطينية” للشاعر إبراهيم طوقان، وربما أصبح اليوم، من الصعب على كتّابٍ من درجة جبران وأحمد رامي وبيرم التونسي وسعيد عقل والرحابنة، ذلك الغناء العربي والصمود أمام مؤلفين يكتبون بقاعدة “الجمهور عايز كده”.
لا تنفي المغنية ليندا بيطار، وجود تخريب متعمّد للذائقة الفنية العربية، وتقول لـ”إرم نيوز”: “كثرة الأغنيات الهابطة من حيث اللحن والكلمات والصوت، يؤكد ذلك”، ولكن بيطار، لا تذهب بعيدًا في لوم الجمهور الشاب، وتضيف:
“يجب ألا نظلم الجيل الجديد، فهناك شريحة كبيرة تهتم بالأغنيات الجادة، والدليل حضور الشباب الكبير في حفلات دور الأوبرا بالقاهرة ذلك الغناء العربي.
ويتحسّر الكثيرون اليوم، على أغنيات أم كلثوم المأخوذة من عيون الشعر العربي، مثل “رباعيات الخيام” لعمر الخيام، و”أصبح الآن عندي بندقية” لنزار قباني، و”سلوا كؤوس الطلا” لأحمد شوقي، و”أنا بانتظارك” لبيرم التونسي.
ولا تغيب فيروز في أغنياتها الشعرية، مثل “أحب من الأسماء” لقيس بن الملوح، و”أحترف الحزن” للأخوين رحباني، و”اذكريني” لسعيد عقل، و”إسوارة العروس” لجوزيف حرب، و”أعطني الناي” لجبران خليل جبران.
قصائد محكية عالية الإبداع
ولا يقلّ الكثير من أغنيات القصائد المحكية، مكانةً عن قصائد الفصحى، في ذاكرة الناس، نظرًا لعمقها ومستوى الإبداع فيها، مثل “دليلي احتار” و”عودت عيني” و”هجرتك” التي غنتها أم كلثوم لأحمد رامي، وكذلك أغنيات “هو صحيح الهوى غلاب” لبيرم التونسي، و”حب إيه” لعبد الوهاب محمد كل ذلك يعود بنا الى الغناء العربي.
كما تحضر أغنيات السيدة فيروز، باللغة العاميّة مثل “بتسأل إذا بهواك”، “من عز النوم”، “الله معك يا هوانا”، “آخر أيام الصيفية” للأخوين رحباني، و”بكوخنا يا بني” لميشيل طراد، و”بناديلك يا حبيبي” لزكي ناصيف، وغيرها كثير.
ويقول الدكتور أشرف عبد الرحمن، رئيس قسم النقد الموسيقى في أكاديمية الفنون بالقاهرة، لـ”إرم نيوز”:
“اندثرت القصيدة، وأصبحت الأغاني الخفيفة باللغة العامية منتشرة، ولكن العامية التي غناها عبد الحليم وعبد الوهاب وفيروز، لم تكن سطحية أو هزيلة، كما يحصل في أغنيات اليوم”.
وترى المغنية ليندا بيطار، أن الإبداع يمكن أن يوجد في النص الفصيح والعامي معًا، وتضيف: “المشكلة ليست لغوية، بل تتعلق بمستوى الإبداع والعمق في العبارات”.
تاريخ القصيدة مع الغناء
ويعود الدكتور أشرف عبد الرحمن، إلى تاريخ دخول القصيدة للغناء، فيقول: “دخلت القصيدة الفصحى الغناء، نهاية القرن الـ19، وتطورت في القرن الـ20، وقبل ذلك كانت تغنى بشكل مرتجل ولا تلتزم الفصحى، واشتهر محمد عثمان بتلحين الكثير من الموشحات والأدوار”.
ويشير عبد الرحمن إلى أن أساس غناء القصيدة، تم على يد عبد الحامولي وأبو العلا محمد، أستاذ أم كلثوم وملحن قصائدها القديمة والحديثة، ويضيف:
“بدأت القصيدة تأخذ منحى آخر، فظهر أحمد شوقي، وكامل الشناوي ومأمون الشناوي، وحافظ إبراهيم، وإبراهيم ناجي، وغيرهم ممن غيروا مجرى القصيدة الغنائية وكان الدور الأساسي في هذا، يعتمد على أم كلثوم ورياض السنباطي”.
ويشير عبد الرحمن إلى أن الملحنين والمطربين والكتاب، كانوا جميعًا يتقنون اللغة العربية الفصحى ويعشقونها، ما جعلهم ينجحون بالتعامل مع هذا الفن الذي يتطلب مهارات كبيرة في الغناء والتلحين والتأليف.
ويستفيض الدكتور عبد الرحمن، بشرح تطورات دخول القصيدة للغناء، فيشرح تأثير الشاعر أحمد شوقي وطه حسين على محمد عبد الوهاب، إذ جعلاه يتذوق الشعر ويعشقه، ما دفعه ليأخذ هذا المسار، ويضيف:
“محمد عبد الوهاب كان يغني ويلحن، والسنباطي كان يغني ويلحن، الجميع كانوا يتقنون اللغة العربية ويعشقونها، كما كان المستوى الثقافي العام مرتفعًا، يسمح بازدهار هذا اللون”.
ويشرح عبد الرحمن كيف نشأت الأغنية “الطقطوقة” في القرن العشرين، ويضيف: “لم يكن مستواها بهذه السطحية والركاكة؛ لأن الحالة الثقافية العامة في المجتمع العربي لم تكن كذلك”.
لماذا انتشرت الأغنية المتواضعة؟
تربط المغنية ليندا بيطار المشكلة بالتربية والمناهج والظروف السائدة ضمن المجتمع، وتضيف: “البيئة تساعد المؤلف والمغني والملحن، فقد ساعدني تدريبي على الموشحات وغنائي في كورال الكنيسة، على سلوك منهج الأغنية الجادة”.
ويذهب الدكتور عبد الرحمن، أبعد من ذلك، فيؤكد أن السطحية تطبع الحياة العربية اليوم، ويضيف: “الغناء أصبح تحريكًا للجسد وليس للمشاعر، الأغنيات تعتمد على الرقص ولا يفكر أحد بالكلمات وعمقها”.
وتظهر طقوس الاستماع مختلفة في هذا العصر، كما يقول الدكتور عبد الرحمن، ففي الماضي، كان الناس يتمعنون بالكلمة ويستمتعون باللحن وما فيه من شجن وطرب، ولكن الاهتمام يتركز اليوم على تحريك الجسد.
ويضيف الدكتور عبد الرحمن: “من الصعب اليوم، إيجاد ملحنين لهم ثقافة شعرية تمكنهم من تلحين القصائد القديمة، ويصعب إيجاد مطربين يجيدون اللغة الفصحى والالتزام بالتشكيل، لذلك اندثرت القصيدة تمامًا في الغناء”.
ولا تلقي المغنية بيطار اللوم على المطربين، الذين يضطر بعضهم لغناء ألوان سطحية يفضلها الجمهور من أجل كسب لقمة العيش، وتضيف: “في النهاية هذه خيارات على المطرب حسمها منذ بداية تجربته”.
ويعدد الدكتور عبد الرحمن، عدة أسباب لاندثار القصيدة من الغناء العربي، أهمها انتشار سماع الأغنيات الغربية ودخول ألوان موسيقية غريبة إلى عالمنا العربي، ويضيف:
“أصبح هناك ميل للكلمات البسيطة التي وصلت درجة الإسفاف، التي لا علاقة لها بالغناء العربي، وساهم في ذلك عدم إجادة اللغة العربية من قبل الملحنين والمطربين، إذ يصعب عليهم تلحينها وغناؤها”.
ولا يغفل عبد الرحمن، الإشارة إلى نجاح كاظم الساهر في غناء العديد من قصائد الشاعر نزار قباني، ولكنه يرجع ذلك إلى سهولة اللغة وبساطتها عند نزار، ويضيف:
“ربما يكون كاظم الساهر، آخر من يغني القصائد، وقد شجعه على ذلك معجم نزار قباني القريب للعامية، أما الآن فلا يوجد أحد يغني القصائد العربية، سواء أكانت القديمة أم المكتوبة حديثًا”.
غياب القصائد والنصوص العميقة عن الغناء العربي، يثير أسئلة كبرى تتعلق بالهوية والمشروع الثقافي والدور المنتظر للفنون في بناء الشخصية الاجتماعية العربية، تلك الأسئلة غير المحسومة، تبدو السبب في اندحار معظم الفنون.